خطبة جمعة عادية : بتاريخ 15/ 07/ 2005 :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، و نسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق و البشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِ وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الأكارم ، تجتاح العالم الإسلامي مشاعر الضعف ، ومشاعر الإحباط ، ومشاعر ، أننا أمة قد انتهت ، ولكن موضوع هذه الخطبة على عكس ذلك ، قال بعضهم : كن عضواً في جمعية الأقوياء ، ولا تكن رأساً في قطيع الضعفاء ، قد تبدو ضعيفاً ، لأنك أردت أن تكون ضعيفاً ، إذاً عش كما تريد ، لابد أن تعلم أن بإمكانك في أي ظرف ، وفي أي وضع ، وفي أية معطيات ، يمكن أن تكون قوياً ، وأن تتخلى عن شعورك بالضعف ، تأمل وِردك اليومي ، وفي الحديث النبوي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا أُمَامَةَ ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : هُمُومٌ لَزِمَتْنِي ، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ، قَالَ : فَفَعَلْتُ ذَلِكَ ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي ، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي )) .
[أبو داود]
النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ويدعوك أن تدعو بالاستعاذة من العجز والكسل ، والجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال ، القوة مطلب أساسي ، وإلا فلا قيمة للحياة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ... )) .
[مسلم]
أيها الإخوة الكرام ، ما من مخلوق أضعف من بعوضة ، ومع ذلك حينما تلح أن تغرس خرطومها في جسم الإنسان ، وتمتص من دمه تغدو أقوى منه ، قوية بإلحاحها ، وهو ضعيف باستسلامه ، القوة مصدر الثقة ، والثقة لا توجد إلا في قلوب الأقوياء ، قال تعالى :
[ سورة النمل : الآية 33]
أيها الإخوة الكرام ، عليك ألاّ تتردد أن تكون قوياً مهما تكن الظروف ، ومهما تكن معطيات البيئة ، ومهما تكن الأحوال ، لديك عملاق ينام بين جنبيك فابحث عنه حتى لا تموت ، وأنت تعيش بين الأحياء .
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاِستراحَ بِمَيْتٍ إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحيـــاءِ
أيها الإخوة الكرام ، يمكن أن تكون قوياً في أي ظرف ، العلم قوة وهو في متناول يديك ، والخبرة قوة ، وإذا كنت في منصب رفيع فهو قوة ، وإذا كنت ذا منطق سديد فالمنطق السديد قوة ، وإذا كنت ذا بديهة فالبديهة قوة ، الحياء قوة لأنه يمنعك أن تفعل شيئاً تهلك به ، الاستقامة قوة ، المنطق قوة ، ملايين ، بل آلاف ، بل مئات أنواع القوى التي يمكن أن تمتلكها في أي ظرف ، مثلاً إذا قال الله عز وجل :
[ سورة النساء : الآية 113]
ما الذي يمنعك أن تكون عالماً ؟ أبواب العلم في متناول يديك ، المستقيم قوي ، يرفع رأسه ، ما الذي يمنعك أن تكون مستقيماً ؟ الأمين قوي ، ما الذي يمنعك أن تكون أميناً ؟ العفيف قوي ، ما الذي يمنعك أن تكون عفيفاً ؟ وسائل القوة بين يديك .
أيها الإخوة الكرام ، الإخلاص ، سيدنا يوسف قال الله عنه :
[ سورة يوسف : الآية 24]
ما السبب الذي صرف الله به عن هذا النبي الكريم السوء والفحشاء ؟ لأنه كان من عباده المخلَصين ، الإخلاص قوة ، العلم قوة ، الخبرة قوة ، الاستقامة قوة ، الصدق قوة ، الأمانة قوة ، العفة قوة ، لو دخلنا في التفاصيل التسبيح قوة ، والاستغفار قوة ، والتقوى قوة ، والتوكل قوة ، إليكم الأدلة :
سيدنا يونس ، قال تعالى :
[ سورة الصافات ]
لأنه كان مسبحاً كان أقوى من أكبر مصيبة تصيب الإنسان ، أن تجد نفسك فجأة في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر ، قال تعالى :
[ سورة الصافات ]
والتقوى قوة ، قال تعالى :
[ سورة الطلاق ]
التوكل قوة ، قال تعالى :
[ سورة الطلاق : الآية 3]
الاستغفار قوة ، قال تعالى :
[ سورة نوح ]
في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )) .
[ أحمد ، أبو داود ، ابن ماجه ]
أما المعرفة والعلم فقوة هائلة ، المعرفة تعطيك طاقة لا تتقيد بحدود المكان ، أو الزمان ، تكسب صاحبها علواً ومنزلةً ، تمهد له الطريق للرفعة في الدنيا والآخرة ، الدليل : قال تعالى :
[ سورة المجادلة : الآية 11]
المرأة بما آتاها الله من جمال يمكن أن تكون قوية ، يمكن أن تحق الحق ، يمكن أن تكون زوجة من الطراز الأول ، يمكن أن تسير بيتها إلى طريق الخير بما أوتيت من قوة ، ليس هناك على وجه الأرض مؤمن لا يستطيع أن يكون قوياً ، (( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ )) ، لماذا إذا ذكرنا كلمة قوة لا يتبادر إلى أذهاننا إلا أن تملك سلاحاً فتاكاً ، في أي مكان ، في أي مجمع الأمين قوي ، ومحترم ، ولا يستطيع أن ينال منه ، الصادق قوي ، المتقن لعمله قوي ، الخبير قوي ، العفيف قوي ، ما الذي يذل الرجال ؟ شهوة البطن والفرج ، يشترى الإنسان الضعيف بالمال والمرأة ، فإذا امتنع المؤمن عن أن يضعف أمام شهوته ، وأمام رغبته في المال كان أقوى من الأقوياء ، ليس مفهوم القوة أن تملك سلاحاً فتاكاً ، قد تكون ضعيفاً ، وأنت قوي .
أيها الإخوة ، دققوا في هذه الحقيقة ، إن من الواجب علينا أن نبحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة كامنة فيه ، ولو أخلص المسلمون في طلب ذلك لوجدوه ، ولصار الضعف قوة ، لأن الضعف ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله في حفظه ، وفي رعايته ، فإذا قوة الضعف تهد الجبال ، وتدك الحصون ، قال تعالى :
[ سورة الفتح : الآية 4]
إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف ، وليس دعوة إلى السكوت عليه ، بل هو دعوة لاستشعار القوة حتى في حالة الضعف ،
لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحمودٌ عَواقِبُهُ فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجسامُ بِالعِلَلِ
قد ينتزع المسلمون من هذا الضعف قوة تحيل قوة عدوهم ضعفاً ، وينصرهم الله نصراً مبينا ، قال تعالى :
[ سورة القصص : الآية 5]
أيها الإخوة الكرام ، من مبادئ هذا الدين الأصيلة أن نفتخر بهذا الدين وبتعاليمه ، وأن نتشرف بأن جعلنا الله من المسلمين ، فمن لم يتشرف بالدين ، ومن لم يفتخر بكونه من المسلمين ففي قلبه شك ، وقلة يقين ، قال تعالى :
[ سورة فصلت : الآية 33]
وإنه يا محمد لذكر لك ولقومك ، هذا القرآن يرفع ذكركم ، وهذا القرآن يرفع ذكر أقوام سيأتون من بعدكم ، وإن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ، ويضع به آخرين ، قال تعالى :
[ سورة آل عمران : الآية 139]
يا رب ، كيف نضل في هداك ؟ وكيف نذل في عزك ؟ وكيف نضام في سلطانك ؟ وكيف نفتقر في غناك ؟
أيها الإخوة ، في بلد عربي أتت ضيفة إلى هذا البلد ، فاستقبلها الوزير المماثل لها ، ومعه فريق من كبار الموظفين ، كان أحدهم ملتزماً ، فلم يصافحها ، فعدم مصافحتها أغضب الوزير إغضاباً شديداً ، ونهره ، وعنفه ، لكن هذه الضيفة سألت عنه في طعام الغداء : أين هو هذا الذي لم يصافحني ؟ فجاءوا به ، سألته : لماذا لم تصافحني ؟ قال : لأنني مسلم ، ولأن ديني يمنعني أن أصافح امرأة أجنبية ، وأنت امرأة أجنبية ، فقالت لمضيفها : لو أن المسلمين أمثال هذا لكنا تحت حكمكم .
لا تستحِ بإسلامك ، هذا دين الله ، لا تستحِ بقرآنك هذا كلام الله ، لا تستحِ بنبيك ، هذا سيد خلق الله ، البطولة أن تظهر عظمة هذا الإسلام ، البطولة أن تطبقه ، لا أن تنادي به ، وأنت مخالف له .
أذكر قصة رويتها كثيراً ، لكنها مناسبة أن أذكرها الآن ، شاب عاش في بلد غربي ، أحب فتاة ، وتعلق بها تعلقاً شديداً ، فلما استأذن والده بالزواج منها أقام عليه النكير ، وتوعده أن يتبرأ منه ، وأن يحرمه من الإرث ، فلما سأله ثانية : يا أبت لو أنها أسلمت ستوافق ؟ قال : سأوافق ، أعطاها كتباً مترجمة إلى اللغة الإنكليزية عن الإسلام لتقرأها ، فإن أسلمت تزوجها بموافقة أبيه ، طلبت منه إجازة كي تقرأها بعيدة عن ضغوطاته ، ومضت هذه الإجازة ، وهي أربعة أشهر ، كأنها أربع سنين ، فلما انتهت الإجازة ، وقرأت الكتب أعلمته الخبر ، وكان كالصاعقة ، اختل توازنه من الفرح ، قالت : لقد أسلمت ، ثم تابعت قولها ، ولكنني لن أتزوجك ، لأنك في ضوء ما قرأت لست مسلماً .
هذا واقع المسلمين ، يرفعون شعارات الإسلام ، لكنهم على المحك اليومي ليسوا مسلمين ، وهذا سبب ضعفهم ، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، قال تعالى :
[ سورة النور : الآية 55]
أيها الإخوة الكرام ، بإمكان كل واحد منكم أن يكون قوياً إذا أتقن تحصيله الدراسي ، أيها الشباب ، أيها الصغار ، إذا كنت الأول ، الأول محترم ، سألوا طالباً نال الدرجة الأولى على مستوى القطر كله في الشهادة الثانوية ، سألوه في صحيفة يومية : بمَ نلتَ هذا التفوق ؟ فأجاب إجابة تعد درساً ، قال : لأن لحظة الامتحان لم تغادر مخيلتي طوال العام ، وأي مسلم إذا تذكر يوم القيامة ، يوم يلقى الواحد الديان فكل عمل يعمله يسأل نفسه : أيرضي الله هذا العمل ؟ إذاً عندئذ تتفوق .
مرة ثانية ، المستقيم قوي ، والعالم قوي والمتقن لعمله قوي ، والعفيف قوي ، والأمين قوي ، وأسباب القوة بين أيديكم جميعاً ، ولا أحد في الأرض يمنعك أن تكون قوياً ، ولكن الشيطان يمنعك أن تكون قوياً ، لا يمنعك بقوته ، بل بوسوسته ، قال تعالى :
[ سورة إبراهيم : الآية 22]
أحد أكبر زعماء قريش كان عند رسول الله ، جاء ابن أم مكتوم الأعمى ، والقصة عندكم معروفة ، هؤلاء الجبابرة كأن الله سبحانه وتعالى يلفت نظر النبي عليه الصلاة والسلام ، هو يعتب له ، ولم يعتب عليه ، هؤلاء الجبابرة الذين أتوك تستقبلهم ، أما هذا الأعمى فقد أعرضت عنه :
[ سورة عبس ]
هذا الذي جلست معه أيها الإخوة الكرام ، ما الذي كان ؟ أن هذا الأعمى الضرير الضعيف الفقير ، لكنه مؤمن ، أتى النبي مرة ثانية ، فقام له النبي عليه الصلاة والسلام ، وعانقه ، وفرش له رداءه ، وقال له : مرحباً بالذي عاتبني به ربي ، هذا الأعمى الضعيف الفقير أتى داعي الكفاح ، وارتفعت راية الإسلام في عهد عمر رضي الله عنه ، ونودي بالنفير إلى القادسية لمعركة فاصلة مع آل كسرى وآل رستم ، فكان عبد الله بن أم مكتوم من المجاهدين ، قيل له : إنك معذور ، أنت أعمى ، قال : لا والله ، يقول الله عز وجل : ] اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [ ، فلما حضرت المعركة سلموه الراية ، فوقف مكانه حتى قتل ، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه ، من هو القوي ؟ هذا الفقير الضعيف الضرير ، وذاك العملاق الكبير الذي لفت الله عز وجل نظر نبيه أن دعك وشأنه ، لا تحفل به ، احفل بهذا ، فأنت إذا آمنت قوي عند الله .
أيها الإخوة الكرام ، دخل سليمان بن عبد الملك الحرم المكي ، ومعه الوزراء والأمراء والحاشية والجيش ، فقال : من عالم مكة ؟ قالوا : عطاء بن أبي رباح ، قال : أروني عطاء هذا ، فأشرف عليه فوجده عبداً ، كأن رأسه رأس زبيبة ، مشلول نصفه ، أزرق العينين ، مفلفل الشعر ، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً ، فقال سليمان : أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طار ذكرك في الآفاق ؟ قال : يقولون ذلك ، قال : بماذا حصلت هذا العلم ؟ قال : بمتابعته ثلاثين عاماً حتى تعلمت العلم ، قال سليمان : يا أيها الحجاج لا يفتي في المناسك إلا عطاء .
حصل أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج ، فقال : دلوني على عطاء بن أبي رباح ، فأخذوه إلى عطاء ، وهو في الحرم ، والناس عليه كالغمام ، فأراد أن يجتاز الصفوف ، ويتقدم إليه ، وهو الخليفة ، فقال عطاء : يا أمير المؤمنين خذ مكانك ، ولا تتقدم الناس ، فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان ، فلما أتى دوره سأله المسألة ، فأجابه ، فقال سليمان لأبنائه : يا أبنائي ، عليكم بتقوى الله ، وعليكم بالتفقه في الدين ، فوالله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد ، لأن الله يرفع من يشاء بطاعته ، إن كان عبداً حبشياً لا مال له ، ولا نسب ، ويذل من يشاء بمعصيته ، وإن كان ذا نسب وشرف ، ألم يكن هذا العبد الحبشي الذي رأسه كالزبيبة قوياً ؟
جاء هشام بن عبد الملك فحج البيت الحرام ، فلما كان في الطواف رأى سالم بن عبد الله بن عمر الزاهد العالم العارف ، وهو يطوف ، وحذاؤه في يده ، وعليه عمامة ، وثياب لا تساوي عشرة دراهم ، فقال له هشام : يا سالم ، أتريد حاجة أقضيها لك اليوم ؟ قال سالم : أما تستحي من الله تعرض علي الحوائج ، وأنا في بيته ، فاحمر وجه الخليفة ، فلما خرج من الحرم لقيه ، قال : هل تريد شيئاً ؟ قال : من حوائج الدنيا ، أم من حوائج الآخرة ؟ قال : أما حوائج الآخرة فلا أملكها ، لكن أملك حوائج الدنيا ، قال : والله الذي لا إله إلا هو ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها تبارك وتعالى ، فكيف أسألها منك ، ألم يكن هذا العالم قوياً أمام الخليفة ؟ الاستقامة قوة ، النزاهة قوة ، الصدق قوة ، الأمانة قوة ، العفة قوة ، العلم قوة .
أيها الإخوة الكرام ، سيدنا عمر يخرج لاستلام مفاتيح بيت المقدس ، فيخرج له الناس ، ويستعرض الجيش المسلم بقيادة أمرائه الأربعة تحت راية أبي عبيد الله ، يستعرضون له في الجابية ، فلما أشرف عليهم قال : لا إله إلا الله ، ثم قال : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله ، ثم أمر الكتائب والجيوش أن تتفرق ، فيدخل مسكنه في تواضع ، وفي هدوء ، فلما اقترب الأمراء منه ، قال : تفرقوا عني ، أين أخي أبو عبيدة عامر بن الجراح ؟ فتقدم أبو عبيدة ، فعانقه ، وبكى طويلاً ، فقال عمر : يا أبا عبيدة ، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة : ماذا فعلنا بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين ، تعال نتباكى ، ولا يرانا الناس ، فانحرفنا عن الطريق والجيوش تنظر إليهما الأمراء والقساوسة والرهبان ، فاتجهنا إلى شجرة ، ثم توقفنا عندها ، وبكينا .
إذا كنت مع الله كان الله معك .
كن مع الله تر الله مــعك واترك الكل و حاذر طمعك
و إذا أعطاك من يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعـك
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ يا رب ، ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
يقول رستم قائد فارس ، وتحت يديه مئتان وثمانون ألفًا من الجند ، يقول لسعد بن أبي وقاص القائد المسلم : أرسل إلي من جنودك رسولاً أكلمه ، فأرسل له سعد رضي الله عنه ربعي بن عامر ، وعمره ثلاثون عاماً ، من فقراء الصحابة ، قال سعد : اذهب ، ولا تغير من مظهرك شيئاً ، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله ، فخرج ربعي بفرسه وثيابه ورمحه البسيط ، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه جمع حوله الأسرة الحاكمة والوزراء والجنود ، واستعدوا بأن يرهبوا هذا الوافد عليه ، يتلعثم فلا يستطيع الكلام ، فلما جلس رستم قال : أدخلوه علي ، فدخل بهذه البساطة التي ما بعدها بساطة ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة ، وأنها رخيصة ، وأنها لا تساوي عند الله شيء .
أيها الإخوة الكرام ، لما وقف أمامه قال : اجلس ، قال ربعي : ما أتيتك ضيفاً حتى أجلس ، وإنما أتيتك وافداً ، فقال رستم والترجمان بينهما : ما لكم أيها العرب ، ما علمنا قومًا أذل ولا أقل منكم للرومان حضارة ولفارس حضارة ، أما أنتم فأهل جعلان تطاردون الأغنام والإبل في الصحراء ، فما الذي أتى بكم إلينا ؟ قال ربعي : نعم أيها الملك ، كنا كما قلت وزيادة ، كنا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، يقتل القريب قريبه على مورد الشاة حتى بعث الله فينا رسولاً ، ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، من جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فغضب رستم ، وللقصة تتمة رائعة .
ما هذه القوة ؟ أعرابي فقير يواجه قائد جيش يعد قريباً من ثلاثمئة ألف ؟
أيها الإخوة الكرام ، وفي الصباح الباكر تمت المعركة بين مجموعة بداة في الصحراء وبين أقوى دولة وقتها ، الآن كي نفهم تصور دولة صغيرة جداً متخلفة فقيرة لا تملك شيئاً تذل أقوى قوة في العالم ، شيء يكاد يكون من الخيال ، لكن إذا كنا مع الله كان الله معنا .
أيها الإخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
[size=35]* * *[/size]
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الإخوة الكرام ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له جليبيب ، كان في وجهه دمامة ، وكان قصير القامة ، وكان فقيراً ، وكان يكثر الجلوس عند النبي عليه الصلاة والسلام ، دميم ، قصير ، فقير ، من أصحاب رسول الله ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : يا جليبيب ، ألا تتزوج ؟ قال : يا رسول الله من يزوجني ؟ وأنا كما ترى لا بيت ، ولا مال ، ولا شيء من هذا القبيل ، فالتفت جليبيب إلى النبي ، فقال : إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله ، من يأخذني ؟ من يقبل أن يزوجني ؟ لا شكل ، ولا مال ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : غير أنك عند الله لست بكاسد ، ابتغوا الرفعة عند الله ، ثم لم يزل النبي عليه الصلاة والسلام يتحين الفرص حتى يزوج جليبيبًا ، فجاءه في يوم من الأيام رجل أنصاري قد توفي زوج ابنته ، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، دققوا الآن يعرضها عليه ، وكانت فائقة الجمال ، يعرضها على النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي : نعم ، ولكن لا أتزوجها أنا ، فردّ عليه الأب : من تُزوجها إذاً يا رسول الله ؟ فقال : جليبيبًا ، فقال : ذاك الرجل يا رسول الله ، تزوجها لجليبيب ، وأنا أعرضها عليك ، انتظر حتى أستأمر أمها ، شيء شبه مستحيل ، ثم مضى إلى أمها ، وقال لها : إن النبي عليه الصلاة والسلام يخطب إليك ابنتك ، قالت : نعم ، ونعم رسول الله ، فقال لها : إنها ليس يريدها لنفسه ، قالت : لمن ؟ قال : يريدها لجليبيب ، قالت : لجليبيب ؟ لا والله لا أزوج جليبيبًا ، وقد منعناها فلاناً وفلاناً وفلاناً ، فاغتم أبوها لذلك ، ثم قام ليأتي النبي عليه الصلاة والسلام ، فصاحت الفتاة من خدرها ، وقالت لأبويها : من خطبني إليكما ؟ قال : خطبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : أفتردّان على النبي عليه الصلاة والسلام خطبته ؟ ادفعاني إلى رسول الله ، فإنه لن يضيعني ، قال أبوها : نعم ، ثم ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، والقصة وردت في روايات عديدة بعض هذه الروايات أنه لا يجد شيئاً يملكه ليكون مهراً ، أو بيتاً ، أو أثاثاً ، أو طعاماً ، جمع له الصحابة بعض المال ، وفي يوم عرسه دعا داعي الجهاد ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام حينما علم أنها قبلت به دعا لها ، وقال : اللهم صب عليها الخير صباً ، ولا تجعل عيشهما كداً كدا ، فلما نودي بنادي الجهاد ، ودخل المعركة استشهد وقتها في يوم عرسه ، فقال عليه الصلاة والسلام : من تفقدون ؟ قالوا : هؤلاء الذين فقدناهم فلان وفلان وفلان ، قال : ولكنني أفقد جليبيبًا ، فقوموا نلتمس خبره ، ثم قاموا يبحثون عنه في ساحة القتال ، وطلبوه مع القتلى ، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب قد استشهد ، فوقف النبي عليه الصلاة والسلام على جسده المقطع ، ثم قال : أنت مني وأنا منك ، ثم تربع عليه الصلاة والسلام جالساً بجانب هذا الجسد ، ثم حمل هذا الجسد ، ووضعه على ساعديه ، وأمرهم أن يحفروا له قبراً ، قال أنس : فمكثنا والله نحفر القبر وجليبيب ماله فراش غير ساعدي النبي عليه الصلاة والسلام .
هذه أمة فتحت العالم ، هذه أمة وصلت إلى الصين شرقاً ، وإلى مشارف باريس غرباً ، أما حينما نكتفي من الإسلام بشعائره ، ونحن يكره بعضنا بعضنا ، ويزدري بعضنا بعضاً فلا ، ما مشكلة الشباب اليوم ؟ المتطلبات فوق طاقتهم ، مصاريف الزواج فوق طاقتهم ، العنوسة أكبر مشكلة يعاني منها المجتمع المسلم ، هذه أمة فتحت العالم ، ولو فهم الصحابة الإسلام كما نفهمه نحن لما خرج من مكة المكرمة .
أيها الإخوة الكرام ، بإمكانكم أن تكونوا أقوياء ، أقوياء بعلمكم ، أعظم كرامة لك كرامة العلم ، هذه الكرامة لا تحتاج إلى خرق العادات ، أعظم كرامة لك أن تكون أميناً ، أن تكون صادقاً ، أن تكون عفيفاً ، أن تكون محسناً ، ولا يمنعك أحد في العالم أن تكون قوياً ، (( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ... )) .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين