بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل عام بهذه المناسبة يشتد الحوار بين أطراف المسلمين ، ما حكم الاحتفال بعيد المولد ؟ أيها الإخوة الكرام ، يقول الله عز وجل : [ سورة هود : الآية 120]
فإذا كان قلب سيد الخلق وحبيب الحق يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه ، فلأن يزداد إيماننا بهذا الدين ، وبهذا النبي الكريم حينما نسمع عن أخلاقه العلية وشمائله الرضية وسيرته الفذة ، وهو سيد ولد آدم ولا فخر أولى .الدليل الأول :[ سورة هود : الآية 120]
والدليل الثاني :[ سورة المؤمنون : الآية 69]
والله سبحانه وتعالى يحضنا على معرفة رسولنا صلى الله عليه وسلم .والدليل الثالث ، قال تعالى :
[ سورة سبأ : الآية 46]
أيها الإخوة الكرام ، أن تجمع الناس في بيتك ، أو أن تجمعهم في مسجد ، وأن تأتي بإنسان تثق بعلمه وإخلاصه ، وأن يحدث الناس عن هذا النبي الكريم ، وعن أخلاقه ، وعن شمائله ، وعن منهجه ، وعن أنه سيد ولد آدم ، وعن أنه مبعوث العناية الإلهية ، وعن أنه رحمة مهداة، ونعمة مزجاة ، هذا ضمن الدعوة إلى الله ، هذا يندرج تحت أساليب الدعوة إلى الله ، هذا يندرج تحت تعريف الناس بهذا النبي الكريم ، وكلمة الإسلام الأولى " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، أن تجمع الناس في كل أوقات العام من دون استثناء ، وفي أي مكان ، في بيت، أو في مسجد ، وأن تحدثهم عن سيد الأنام ، وأن تقدم لهم بعض الطعام ، هذا من ضمن حقيقة هذا الدين ، من ضمن الدعوة إلى سيد المرسلين ، من ضمن العمل الصالح ، وما من عمل أعظم عند الله من كلمة طيبة .أيها الإخوة الكرام ، لكنك إذا قلت : إن الاحتفال بعيد المولد عبادة فهو بدعة ، إن عددته عبادة فهو بدعة ، وإن عددته نشاطاً دعوياً يندرج تحت الدعوة إلى الله ، وتعريف الناس برسول الله ، فهذا شيء آخر ، لا يؤخذ عليه شيء .أيها الإخوة الكرام ، ولا سيما في هذا العصر ، ولا سيما في هذه السنوات الأخيرة حيث عمت القسوة والوحشية ، وعمّ الحقد والضغينة بين بني البشر ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إنساناً بكل معاني هذه الكلمة ، النبي عليه الصلاة والسلام نراه الإنسان الحاني الرحيم ، الذي لا تفلت من قلبه الذكي شاردة من آلام الناس وآمالهم إلا لبّاها ، ورعاها ، وأعطاها من ذات نفسه كل اهتمام وتأييد ، نرى فيه الإنسان الذي يكتب إلى ملوك الأرض طالباً إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل ، ثم يصغي في حفاوة ورضًى إلى أعرابي حافي القدمين ، حدَّثه بجهالة فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الصَّنْعَةِ ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ ، فَجَذَبَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ الصَّنْعَةُ فِي صَفْحِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنَا مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : مُرُوا لَهُ )) .[البخاري ، أحمد]
نرى فيه العابد الأواب الذي يقف في صلاته يتلو سوراً طويلة من القرآن الكريم في انتشاء وغبطة ، لا يقايض عليها بملء الأرض تيجاناً وذهباً ، ثم لا يلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلفه في المسجد ، فيضحي بغبطته الكبرى وحبوره الجياش ، وينهي صلاته على عجل رحمة بالرضيع الذي كان يبكي ، وينادي أمه ببكائه .نرى فيه الإنسان الذي وقف أمام جميع من شنّوا عليه الحرب والبغضاء ، وقفوا أمامه صاغرين ، ومثّلوا بجثمان عمه الشهيد حمزة ، ومضغوا كبده في وحشية ضارية ، فيقول لهم، وهو القادر على أن يهلكهم : (( اذهبوا فأنتم الطلقاء )) .[السيرة النبوي لابن هشام ، سنن البيهقي الكبرى ، تاريخ الطبري]
نرى فيه الإنسان الذي يجمع الحطب لأصحابه في بعض أسفارهم ليستوقدوه ناراً تنضج لهم الطعام ، ويرفض أن يتميز عليهم ، نرى فيه الإنسان الذي يرتجف حينما يبصر دابة تحمل على ظهرها أكثر مما تطيق ، نرى فيه الإنسان وهو في أعلى درجات القوة يقف بين الناس خطيباً ، ويقول : من منكم جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه ، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله ، نشهد أنك أديت الأمانة ، وبلغت الرسالة ، ونصحت الأمة ، وكشفت الغمة ، وجاهدت في الله حق الجهاد ، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد .أيها الإخوة الأحباب ، من ومضات رحمته صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه في الحديث عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ )) .[سنن الدارمي]
وروى عن ربه الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي )) .[ورد في الأثر]
وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام ، وأرشد المؤمنين إلى التزام الرحمة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ )) .[الترمذي ، أبو داود]
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن الرحمة خير من الإفراط في العبادة ، فقد خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ موضع يدعى كراع الغنيم فصام ، وصام الناس ، ولما رأى بعض الناس قد شقّ عليهم الصيام بسبب وعثاء السفر دعا بقدح من ماء ، فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب ، فلما قيل له : إن بعض الناس ما يزال صائماً ، قال : أولئك العصاة .رجل يسرع الخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يغشاه فرح كبير ، تغمره الفرحة العارمة ليبايع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة معه ، وعلى الجهاد في سبيل الله تحت رايته ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : (( أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي جِئْتُ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ ، أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلَقَدْ أَتَيْتُ ، وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكِيَانِ ، قَالَ : فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا )) . [ابن ماجه]
ترك أبويه يبكيان لفراقه ، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام قيمة بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله .أيها الإخوة الكرام ، إن بسمة تعلو شفة أب حنون ، وتكسو وجه أم متلهفة لا تقدَّر عند النبي عليه الصلاة والسلام بثمن ، حتى حينما يكون الثمن جهاداً في سبيل الله ، هؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدَّين ، ثم تعجزهم ضحالة الدخل عن السداد يعانون من أجل الديون همّ الليل وذل النهار ، هؤلاء يئسوا ، والنبي عليه الصلاة والسلام داوى جراحهم ، إنه لا يملك إلا أن يقول للدائن : تنازل عن حقك ، فمحمد صلى الله عليه وسلم خير من يصون الحقوق ، لكنه يهب الدائن شفاعته وقلبه وحبه إذا هو أرجى مدينه ، وصبر عليه حتى تحين ساعة فرج قريب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا ، أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ )) .[ الترمذي ، أحمد ، ابن ماجه ]
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ ، وَأَنْ تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ )) .[ أحمد ]
ويجعل النبي عليه الصلاة والسلام الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها ، فيجعل كل عمل رحيم عبادة من أزكى العبادات ، فعند النبي عليه الصلاة والسلام أن أعمالنا الرحيمة التي نسديها للآخرين إنما يراها الله قربات توجه إليه ، فإذا عُدتَ مريضاً فأنت إنما تزور الله ، وإذا أطعمت جائعاً فكأنما تطعم الله ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : (( يَا ابْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ، يَا ابْنَ آدَمَ ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ... )) .[ مسلم ، أحمد ]
أيها الإخوة الكرام ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام أما تضم طفلها إلى صدرها في حنان بالغ ورحمة بالغة ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (( قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا ، وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا : لَا ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )) .أيها الإخوة الكرام ، ذات يوم تقدم منه أعرابي في غلظة وجفوة ، وسأله مزيداً من العطاء ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الصَّنْعَةِ ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ ، فَجَذَبَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ الصَّنْعَةُ فِي صَفْحِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنَا مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : مُرُوا لَهُ )) .[البخاري ، أحمد]
أيها الإخوة الكرام ، إن الطمأنينة التي دفعت هذا الأعرابي إلى هذا الموقف المسرف في الجرأة ، هذه الطمأنينة وحدها تصور عدل محمد صلى الله عليه وسلم ، فما كان هذا الأعرابي قادراً على أن يقول مقالته تلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم أقام بينه وبين الناس حجباً ، وبث في نفوسهم الخشية والرهبة ، لكن هذا النبي الكريم حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس ، وحينما دخل عليه رجل غريب يختلج ، بل يرتجف من هيبته استدناه وضرب على كتفه في حنان وفرق تواضع ، وقال له قولته الشهيرة ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : (( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ )) .[ابن ماجه]
أيها الإخوة الأحباب ، لقد هيأ النبي عليه الصلاة والسلام تفوقه ليكون واحداً فوق الجميع ، فعاش واحداً بين الجميع ، يسأله أعرابي يوماً في بداوة جافة حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ قَالَ أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً [البخاري ، مسلم]
لذلك انطلاقاً من قيم العدل التي آمن بها صلى الله عليه وسلم ، ودعا إليها يبين عليه الصلاة والسلام ، ويقول : (( بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ )) .[مسلم عن أبي هريرة]
وإن زوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دم سفك بغير حق. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (( أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )) .[متفق عليه]
لو أن إنساناً ـ أيها الإخوة الكرام ـ بطلاقة لسانه وقوة حجته ينتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكماً ، ولم يكن محقاً فيه لا ينجو من عذاب الله ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ )) .[ متفق عليه ]
هذا عن رحمته ، فماذا عن محبته صلى الله عليه وسلم ؟ النبي عليه الصلاة والسلام محب ودود ، أطاع الله كثيراً ، لأنه أحبه كثيراً ، بر بالناس كثيراً ، لأنه أحبهم كثيراً ، أحب عظائم الأمور ترك سفاسفها ودنيها ، أحب عظائم الأمور ، ومارسها في شغف عظيم ممارسة حب مفطور ، لا ممارسة مكلف مأمور ، لقد سجد ، وأطال السجود ، وسمع وجيب قلبه ، ونشيج تضرعه وبكائه ، لأنه في غمرة شوق جارف ، ومحبة أخاذة ، كان ينتظر الصلاة على شوق، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ ، قَالَ مِسْعَرٌ : أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((يَا بِلَالُ ، أَقِمْ الصَّلَاةَ ، أَرِحْنَا بِهَا )) .[أبو داود]
أرحنا بها ، لا أرحنا منها ، هذا هو الفرق بين الحب والواجب ، ذات يوم كان في الطائف يدعو قومها إلى الله عز وجل ، فقابلوه بالتكذيب والسخرية والإيذاء ، أغروا به سفهاءهم ، ألجؤوه إلى حائط ، رفع رأسه إلى السماء ، وناجى ربه فقال : (( إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي )) .[السيرة النبوية لابن هشام]
أي إنه لا يخشى العذاب والألم إلا إذا كان تعبيراً عن تخلي الله عنه ، ثم أدرك صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي للمحب الصادق أن يشغله استعذاب التضحية عن رجاء العافية ، فيستدرك ، فيقول : (( لكن عافيتك أوسع لي )) .ذات يوم أقبل على محمد صلى الله عليه وسلم رجل فظ غليظ لم يكن رآه من قبل ، غير أنه سمع أن محمداً يسب آلهة قريش ، فحمل سيفه ، وأقسم بالله ليسوين حسابه مع محمد ، ودخل عليه ، وبدأ حديثه عاصفاً مزمجراً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم ، وتنطلق مع بسماته أطياف نور آسر ، وما هي إلا لحظات حتى انقلب المغيظ المتجهم محباً يكاد من فرط الوجد والحياء يذوب ، وانكفأ على يد محمد صلى الله عليه وسلم يقبلهما ، ودموعه تنحدر غزيرة ، ولما أفاق قال : يا محمد ، والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغض إلي منك ، وإني لذاهب عنك وما على وجه الأرض أحب إليّ منك . ما الذي حدث ؟ لقد أحب محمد e
الرجل ، فخرّ جبروت هذا الرجل صريع حب ، وديع قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، مفتوح دائماً لكل الناس ، الأصدقاء والأعداء ، وحينما اقترب هذا الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسته شعاعة من فيض قلبه الكبير معذورة قريش حينما لم تدرك هذا السر ، فقالت : إن محمداً لساحر .من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام في الحب ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ )) .[مسلم]
إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه ، وإذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه ، واسم أبيه ، وممن هو ، فإنه أوصل للمودة ، وإذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنين دون ثالث ، فإن ذلك يحزنه ، ومن هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ، وكفى إثماً ألا تزال مخاصماً ، ومن أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك ، محقاً كان أو مبطلاً ، وشرار الخلق هم الذي لا يقيلون عثرة ، ولا يقبلون معذرة ، ولا يغفرون ذنباً ، صل بين الناس إذا تناشدوا ، وقرب بينهم إذا تباعدوا .أيها الإخوة الكرام ، هكذا كانت محبته صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت رحمته ، إليكم هذه القصة جابر بن عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القصة تصور مودة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، ورفقه بهم ، واهتمامه بمشكلاتهم ، وتواضعه ، ومؤانسته لهم ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (( خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مُرْتَحِلًا عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتْ الرِّفَاقُ تَمْضِي ، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا لَكَ يَا جَابِرُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا ، قَالَ : فَأَنِخْهُ ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ ، أَوْ قَالَ : اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ ؟ قَالَ : فَفَعَلْتُ ، قَالَ : فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ ـ أي وخزه بها وخزات ـ ثُمَّ قَالَ : ارْكَبْ ، فَرَكِبْتُ ، فَخَرَجَ ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً ، قَالَ : وَتَحَدَّثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بَلْ أَهَبُهُ لَكَ ، قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ ، قَالَ : قُلْتُ ، فَسُمْنِي بِهِ ، قَالَ : قَدْ قُلْتُ : أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ ، قَالَ : قُلْتُ : لَا ، إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هو يداعبه ـ قَالَ : فَبِدِرْهَمَيْنِ ، قَالَ : قُلْتُ : لَا : قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ ، قَالَ : قُلْتُ : فَقَدْ رَضِيتُ ، قَالَ : قَدْ رَضِيتَ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قُلْتُ : هُوَ لَكَ ، قَالَ : قَدْ أَخَذْتُهُ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ لِي : يَا جَابِرُ ، هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلْ ثَيِّبًا ؟ قَالَ : أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا ، فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ ، قَالَ : أَصَبْتَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ : فَأَخْبَرْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : فَدُونَكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً ، قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ ، فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ ، قَالَ : وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَأَى الْجَمَلَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ ، قَالَ : فَأَيْنَ جَابِرٌ ؟ فَدُعِيتُ لَهُ ، قَالَ : تَعَالَ ، أَيْ يَا ابْنَ أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ ، فَهُوَ لَكَ ، قَالَ : فَدَعَا بِلَالًا ، فَقَالَ : اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ ، فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً ، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا ، قَالَ : فَوَاللَّهِ مَازَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا ، وَنَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ النَّاسُ ، يَعْنِي يَوْمَ الْحَرَّةِ )) .[ متفق عليه ]
أرأيتم إلى ملاطفته ، إلى رقته ، إلى رفقه بأصحابه ، إلى تواضعه لهم ، هكذا كانت أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام .
وحينما أثنى الله عليه قال تعالى :
[ سورة القلم : الآية 4]
أيها الإخوة الكرام ، صحابي جليل ، هو عثمان بن مظعون كان متبتلاً غير مشفق على نفسه ، حتى لقد همّ ذات يوم أن يتخلص من نداء الغريزة كلياً ، ذات يوم دخلت زوجته على السيدة عائشة رضي الله عنها فوجدتها عائشة رثة الهيئة ، مكتئبة المحيا ، فسألتها عن أمرها ، فقالت : إن زوجي عثمان صوام قوام ، يعني كانت ذكية في تعبيرها ، ليس له من حاجة ، يعني ، يصوم النهار ، ويقوم الليل ، فأخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بحال امرأة عثمان بن مظعون ، فالتقى النبي عليه الصلاة والسلام بعثمان ، وقال : يا عثمان ، أما لك بي أسوة ؟ قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وماذا ؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : تصوم النهار ، وتقوم الليل ؟ قال : إني أفعل ذلك ، قال عليه الصلاة والسلام : لا تفعل ، إن لجسدك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقا ، فأعطي كل ذي حق حقه ، وفي صبيحة اليوم التالي ذهبت زوجة عثمان إلى بيت النبوة عطرة نضرة كأنها عروس ، واجتمع حولها النسوة اللاتي كانت تجلس بينهن بالأمس رثة بائسة ، وأخذن يتعجبن من فرط ما طرأ عليها من بهاء وزينة ، قلن لها : ما هذا يا زوج ابن مظعون ؟ قالت ، وهي مغتبطة : أصابنا ما أصاب الناس .هكذا كانت رحمته ، وهكذا كانت محبته ، وهكذا كانت إنسانيته ، إنسانية النبي عليه الصلاة والسلام لم تحتمل حال زوجة يؤرقها هجر زوجها لها ، فذكّر زوجها بما عليه من حق ، كان عليه الصلاة والسلام أرحم الخلق بالخلق ، فمن أقواله المؤكدة لهذه الحقيقة أنه كان يقول : (( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا )) .[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس]
وكان عليه الصلاة والسلام يقول : (( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس )) .[الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عمر]
إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله ، من كان وصلة لأخيه إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو إدخال سرور ، أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة ، وإن لله أقواماً اختصهم الله بالنعم بمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، وحوّلها إلى غيرهم ، ومن استعمل رجلاً في جماعة فيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنون ، وإن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع .هكذا كان عليه الصلاة والسلام ، اخترت لكم رحمته ومحبته ، وبعض أخلاقه العلية ، وبعض أحاديثه الشريفة في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ، وماذا ينفعنا إحياء ذكرى مولده إن لم نتخلق بأخلاقه ؟ ماذا ينفعنا إحياء ذكرى مولده إن لم تكن سنته مطبقة في بيوتنا ، وفي علاقاتنا ، وفي أفراحنا ، وفي أحزاننا ، وفي نشاطنا ، وفي سفرنا ، وفي حلنا ؟ ماذا ينفع المسلمين اليوم ، وقد تفرقوا ، وتشرذموا ، وسرت بينهم العداوة والبغضاء ؟ هكذا كان أصحاب النبي عليه صلوات الله أيها الإخوة الكرام ، و أجمل منك لم تر قط عيني و أكمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءاً من كل عيــب كأنـك قد خلقت كما تشاء
***
وأسدت للبرية بنت وهــب يداً بيضاء طوقت الرقـابا
لقد وضعته وهاجاً منيــراً كما تلد السماوات الشهابـا
***
أيها الإخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سينا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الإخوة ، في تعليق على العلاقة مع الطرف الآخر أسوق هذه الكلمات التي أعددتها لكم .
أيها الإخوة الكرام ، الاختلاف بين الناس وبين الأطراف وبين الشعوب وبين الحضارات ، الاختلاف أمر بشري ، فطرنا عليه ، وقدر علينا نحن البشر ، هذه حقيقة علينا أن نتعامل معها بتعقل وتبصر ، لنصل إلى أهدافنا كأمة مسلمة ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، قال تعالى :
[ سورة هود : الآية 118]
وقال تعالى :
[ سورة المائدة : الآية 48]
إن هذا الاختلاف بين الأمم بين الحضارات بين الأديان نقره ، ولا ننكره ، ولا يعفينا من تبيان حقيقة معتقدنا وسموه ، ولا الدفاع عن معطياته الإلهية ، ولا يعفينا من حوار محدد السبل والأهداف ، فلعلنا بذلك ولو على الأقل نصل إلى نقطة اتفاق ولو نسبية تكون أساس علاقات إنسانية مثمرة ، هذا الدين الإسلامي العظيم عالمي النزعة والهدف ، وما أصابه من تشوه هو بفعل أيدينا إهمالاً وتجاهلاً ورفضاً ، لذلك الآخر الذي بادر وبشغف ، وحتى قبل ظهور الأسباب الموجبة لرسم صورة مشوهة عن حقيقة دين إسلامي سام وإنسانية متميزة في تطلعاته وآفاقه المستقبلية ، ضخم هذا الطرف الآخر نقاط ضعف قد تواجدت بفعل بعضنا ، غافلاً عن زوايا رائعة لمن اتخذ الإسلام دستوراً وفكراً ، فعل ذلك ، وقد أمسك بزمام الحياة المادية بمعظم أبعادها ، إن ذلك كله لا يعني الخنوع والجري في سياق من يظن أنه متفوق لا لشيء ، إلا لأنه يملك أدوات مادية يحاول بها تحريك العالم مهملاً بدوره حق الآخر في الاختلاف ، فارضاً فكره ، معلناً العولمة التي يرى أنها لن تكون مجدية إلا إذا اكتست بمفاهيمه ، منكراً على الآخر تمسكه بخصائصه الذاتية سواءً كانت دينية أو وطنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، كما أن اعترافنا بالتقصير النسبي اتجاه الآخر لا يعني الإذلال والقبول بتطاول نفوس فطرت على الإساءة ، سواء لمن استذل لها أو ترفع عن مواجهتها .
أيها الإخوة الكرام ، ينبغي أن نكون دقيقين جداً في تعاملنا مع الطرف الآخر ، اعترافنا بهذا التقصير لا يعني ذلك أيضاً أن غيرنا معفى من عنصرية مقيتة معترف بها من قبل أهلها ، ومحارب لأجلها ، فرفضهم للآخر أشد ظلمة لرفض بعضنا بعضاً ، ولو كانت الأنظار قد غضت اليوم عن عنصرية أولئك فالتضخيم كان من نصيب من ينتسبون لهذا الدين دون منازع ، في الآونة الخيرة ، وبأسىً يتابع بعضنا ضعف بعضنا اتجاه الآخر ، ونحن في حقيقة الأمر لا نفهم مرد هذا الضعف وأساسه ، هم يتباهون بالإعلام ، أن الآخر كامل بالجملة ، ونحن المتقهقرون بالجملة ، والمضحك في هؤلاء أن الجهل ، ثم الجهل ، ثم الجهل وراء قناعاتهم .
أيها الإخوة الكرام ، نحن في أمس الحاجة إلى عقل متفتح ، وفهم عميق ، وتمسك شديد ، وبصيرة نافذة ، وكلمة حكيمة في التعامل مع الطرف الآخر ، لا ينفعنا الصراخ ، ولا ينفعنا العويل ، ولا ينفعنا الانزواء ولا التقوقع ، لا بد من طريقة نعبر فيها عن هذا الدين العظيم وعن مبادئه السامية ، وعن أخلاق نبيه الرفيعة .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين