الخطبة الإذاعية "06" بتاريخ 11/ 12/ 1987 لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
الموضوع : الأمانة .
تفريغ : الأستاذ هشام قدسي .
التدقيق : الأستاذ محمد موسى حلوم والسيد أحمد مالك .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، يا رب أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، وشرع الإسلام وجعل له منهجاً ، وأعز أركانه على من غالبه ، فجعله أمناً لمن علقه وسلماً لمن دخله ، وبرهاناً لمن تكلم به ، وشاهداً لمن خاصم عنه ، ونوراً لمن استضاء به ، وفهماً لمن عقل ، ولباً لمن تدبر ، وآيةً لمن توسم وتبصرةً لمن عزم ، وعبرةً لمن اتعظ ، ونجاةً لمن صدَّق ، وثقةً لمن توكل ، وراحةً لمن فوض ، وجنَّةً لمن صبر .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كل عزيز غيره ذليل وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أدى الأمانة ، وبلَّغ الرسالة ونصح الأمة ، ومحا الظلمة .
سيدي يا رسول الله :
الحق أنت وأنت إشراق الهدى و لك الكتاب الخالد الصفحات
من يقصد الدنيا بغيرك يلقهـا تيهاً من الأهوال والظـلمات
***
اللهم صل ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، الهداة المهديين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، نجوم الهدى ، ومصابيح الرشاد .
يقول أحد هؤلاء الأصحاب ، إنه الأمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : "قوام الدين والدنــيا أربعة رجال ، عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه فإذا ضيع العالِمُ علمَه ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره " .
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير .
الأمانة أشفقت مِن حملها السماوات والأرض والجبال ، وأبين أن يحملنها ، وقال الإنسان : أنا لها ، وحملها ، فهل كان بحملها ظلوماً جهولاً ؟ ..
قال تعالى :
[سورة الأحزاب ]
أياً كان معنى الأمانة فهي شيء عظيم ، وخطير ، ومصيري ، بدليل أن السماوات والأرض والجبال أشفقن منها ، وأبين أن يحملنها ، والإنسان من خلال موقفه منها إما أن يرقى إلى أعلى عليين ، أو يهوي إلى أسفل سافلين ، موقفه من الأمانة سيحدد ما إذا كان مؤمناً ، أو مشركاً ، أو منافقاً..
على الرغم من أن المسلم قد يفهم الأمانة بادئ ذي بدء اسماً لشيء يودع عند الآخرين ، ليحتفظوا به ويحفظوه ، ثم ليردوه إلى من أودعه بالتمام والكمال ، ويفهمها أيضاً صفة طيبة لمن يؤدي الأمانات إلى أهلها على الوجه الصحيح .
على الرغم من أن عامة الناس يفهمونها فهماً محدوداً ، فإن للأمانة مفاهيم واسعةً ، وعميقةً ، ومتعددة ، فهي أحد الفروع الخلقية لحب الحق وإيثاره ، وهي ضد الخيانة ، وهي عفة عن المحارم ، وعفة عن المطامع ، من دون أن يكون المرء الأمين مداناً عند الناس ، هي أداء طوعي للحقوق والواجبات ، وحفظ لكل ما استؤمن عليه الإنسان ، هذا من جانب الإنسان ، أما من جانب الواحد الديان : فهي سؤال ، وحساب ، وإدانة ، وجزاء لكل ما أوكل أمره للإنسان ، وقد أعطي الإمكانات والقدرات الكافية ليصح التكليف ، وأعطي الإرادة الحرة لتحقيقه .
روى الإمام البخاري في صحيحه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع ومسؤول عن رعيتـــه، والرجل راع في أهله ، ومسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته)) .
والآن ما الأمانة بمفهومها الخطير والمصيري ؟ .. إنها التكليف .. فالإنسان حينما قَبِلَ حمل الأمانة قبلِ أن تكون نفسُه التي بين جنبيه أمانةً عنده ليعرفها بربها ، فأصل الدين معرفته ، وليطهرها من أدرانها فالله يحب المتطهرين ، وليزكيها بالكمال الإنساني ، قال تعالى :
[سورة الشمس]
كل هذا من أجل أن يكون إيمانها ، وعملها الصالح مؤهلاً لها لدخول الجنة التي أعدَّت لها ، ففيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ولكن الله عز وجل حين كلف الإنسان حمل الأمانة منحه مقومات هذا التكليف ، فسخر له ما في السماوات وما في الأرض ، جميعاً منه ، تسخير تعريف وتكريم ليؤمن به ويشكره .
ومنحه بعد ذلك العقل قوةً إدراكيةً ، يتعرف به إلى الله من خلال الكون ، قال تعالى :
[سورة الرحمن]
وأودع فيه الشهوات ليرقى بها صابراً أو شاكراً إلى رب الأرض والسماوات .
ومنحه الإرادة الحرة ، ليصح التكليف والابتلاء ، وليكون النجاح فيهما ثمن العطاء .
وحرصاً على قيامه بواجب التكليف ، بعث الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتاب بالحق .
وإذا حملت الأمانة ، كما ينبغي ـ وهذه مقوماتها ـ تحقق الهدف من خلق الإنسان ، وهو العبادة ، التي هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، تسبقها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .. قال تعالى :
[سورة الذاريات ]
عندئذٍ كان النجاح والفلاح .. قال تعالى :
[سورة الشمس]
وبعد أن يكون المرء أميناً على نفسه ، من أن تضل ، أو تزل يمكن أن يكون أميناً مع الخلق، وأمانة الخلق لها مستويات عديدة ودوائر متعاظمة ، أعلاها مستوىً وأوسعها شمولاً :
· · أمانة التبليغ :
وهي الأمانة العظمى التي حُمّلت للأنبياء والمرسلين ، الذين هم أمناء وحي السماء ، وقد رعوها حق رعايتها وأدوها على الوجه المطلوب ، فظهرت في عصورهم بطولات فذّة ، ومجتمعات فاضلة مكنت قوى الخير من أن تنتصر على قوى الشر .
· · أمانة التبيين :
ثم أوكلت هذه الأمانة إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وأمناء الرسل ، وقد أدى الأصحاب الكرام ، والتابعون الأعلام ، والعلماء العاملون المخلصون من بعدهم هذه الأمانة ، وحفظوا ميراث النبوة ، وتحمَّلوا مسؤولية الأداء ، وما تنصلوا ، وما تعللوا ، وما اعتذروا ، وما ألقوا ذلك على عاتق غيرهم ، فكانت مجتمعاتهم بشكل أو بآخر امتداداً لعصور الازدهار والتألق .
ولقد أخذ الله العهد على العلماء أن يُبيِّنوا الحق للناس ، ولا يكتموه ، وهذه أمانة العلم ، ولن يستطيع العلماء أداء أمانتهم تلك إلا إذا كانوا علماء عاملين مخلصين ..
ولكن واقع المجتمع الإسلامي اليوم يختلف اختلافاً بيِّناً عن واقع المجتمع الإسلامي في عهود الازدهار والتألق ، فمعظم الناس اليوم لا يتخلقون بأخلاق الإيمان ، ولا يلتزمون بسنة النبي العدنان ، ولا يقفون عند حدود الله ، بل يتجاوزونها ؛ وبيوت المسلمين ليست على ما ينبغي لها ، والعلاقات الاجتماعية والمالية ليست منضبطة وفق الشرع الحنيف ، لقد قصر مفهوم الدين على أداء العبادات الشعائرية من صوم ، وصلاة ، وحج ، وزكاة .. ونسي الناس أن ترك درهم من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ، ولأن يمشي الرجل في حاجة أخيه المؤمن ، خير له من صيام شهر واعتكافه ..
والأمة الإسلامية بأجيالها الحاضرة والقادمة .. من المسؤول عن اهتزاز القيم الدينية فيها ؟ .. ومن المسؤول عن تفلت الناس من قواعد الدين القويم ، وأحكام الشرع الغراء ؟ .. إنهم العلماء ، والمربون ، والقادة الموجهون ، إنهم مسؤولون أمام الله عز وجل ، لأنه حمَّلهم أمانة الأداء ، وأخذ عليهم العهد أن يبيِّنوا الحق للناس ولا يكتموه ، إنهم لن يستطيعوا أداء أمانتهم إلا إذا كانوا علماء عاملين مخلصين ، ويجب أن يكونوا قدوة بأخلاقهم ، قبل أن يكونوا موجهين بألسنتهم .. قال تعالى :
[سورة الأحزاب]
· · أمانة الولاية :
ومن مستويات الأمانة ، أمانة الولاية ، وهذه الأمانة تكمل أمانة التبليغ ، وأمانة الأداء .. يقول صلى الله عليه وسلم :((صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء ...)) .
[أخرجه أبو نعيم في الحلية ]
فالورع حسن ، لكنه في العلماء أحسن ، والعدل حسن ، ولكنه في الأمراء أحسن .. ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المسؤوليات على كل المستويات ، بدءاً من الأمير ، وانتهاءً بغيره .
فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته ...)) .
تروي فاطمة بنت عبد الملك ، زوجة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين " دخلت على عمر يوماً في مصلاه فرأيته واضعاً يده على خده ، ودموعه تسيل ، فقلـت له : ما بالك ، وفيم بكاؤك ؟ فقال : ويحك يا فاطمة ، إني قد وُليت هذا الأمر ففكرت في الفقير ، والجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهول ، واليتيم المكسور ، والمظلوم المقهـور ، والغريب ، والأسير ، والشيخ الكبير ، والأرملة الوحيدة ، وذوي العيال الكثير ، والــرزق القليل ، وأشباههم في أطراف البلاد ، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم جميعاً يوم القيامة ، وإن خصمي دونهم يومئذ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فخشيت ألا تثبت لي حجة ، فلذلك أبكي " .
[سير أعلام النبلاء ، للذهبي " ترجمة عمر بن عبد العزيز 131-132]
ومن فروع أمانة الولاية ، أمانة التولية .. وهي أن يوضع كل رجل في مكانه الصحيح اللائق به ، وأن يسند كل عمل لصاحبه الحقيق به .. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : ((يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ .. قال : فضرب بيــده على منكبي ، ثم قال : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنهــا أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) .
[رواه مسلم كتاب الأمارة ]
سيدنا عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام ، أسند إلى رجل ولاية وأراد أن يمتحنه ليتحقق من أهليته ، وأن يوجهه ليحقق مهمته فسأله : ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال : أقطــع يده .. فقال عمر : إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، يا هذا إن الله قد استخلفنا على خلقه لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها .. إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعـــة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة ، قبل أن تشغلك بالمعصية .
· · أمانة الواجب :
من معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً من خلال العمل الذي أنيط به ، وأن يستنفذ جهده في إبلاغه تمام الإحسان انطلاقاً من الإيمان والشعور ، بأن الله سيسأل عن العمل الذي وُكل إليه ، هل أداه كاملاً غير منقوص ؟ أم كان الخلل والتقصير .. وهل نصح أم غش ؟ وهل أتقن أم أهمل ؟ .. وهل أنصف أم ظلم ؟ .. وهل أحسن أم أساء ؟ .. وهل رحم أم قسا ؟ .. وهل حفظ أم ضيغ ؟ .. وهل أعطى أم منع ؟ ..
فالطالب أمانة في عنق المعلم ، فهل عني في تعليمه وتقويمه ، أم أهمل وقصر ؟ وهل كان مخلصاً للحقيقة ، أم مزوراً ، ومنتحلاً لها ؟ .. وهل أخلص في علمه أم خان ضميره المسلكي وضيع ما استودع ؟ ..
والمريض أمانة في عنق الطبيب ، فهل حرص على شفائه من دائه أم حرص على ابتزاز ماله ؟ ..
والموكِّل أمانة في عنق المحامي ، فهل صدقه ونصحه ؟ والخصمان المتنازعان أمانة في عنق القاضي فهل عدل أم ظلم ؟
والأبنية والمنشآت والجسور والطرقات أمانة في عنق المهندس الذي صممها والمهندس الذي نفذها ، والمهندس الذي تسلمها .. هل حفظ مال الأمة أم ضيعه ؟ ..
والصنعة والحرفة أمانة في عنق الصانع فهل أتقنها ، وهل حسَّنها وهل طوَّرها ، أم أهملها ؟ فكانت العيوب والنقائص ، وكان الخلل والكساد ، علماً بأن إتقان الصنعة جزء من الدين .. ((إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه)) .
[رواه أبو يعلى والعسكري عن عائشة ]
والشجرة والنبتة ، أمانة في عنق الزارع .. هل أحسن العناية بها كي تؤتي أكلها كل حين، أم تركها نهبة للعطش والأمراض والأوبئة فانخفض الإنتاج وتضرر الناس ؟ ..
والمستهلك أمانة في عنق البائع فهل نصحه أم غشه ، في النوع أو الكم أو السعر ؟ ..
والمُراجع أمانة في عنق الموظف هل سهل له طلبه ، ويسر له أمره؟ أم وضع له العقبات والعراقيل ليأخذ منه ما ليس له بحق ..
ويدخل في أمانة الأموال : البيوع ، والديون ، والمواريث ، والودائع والرهون ، والعواري ، والوصايا ، والهبات ، وأنواع الولايات الكبرى والصغرى ، وغير ذلك .
ويدخل في أمانة الأعراض كفُّ النفس ، والسمع ، والبصر ، واللسان ، واليد ، والغيبة ، والقذف ..
ويدخل في أمانة الأجسام والأرواح كفُّ النفس ، واليد عن التعرض لها بسوء ، من قتل ، أو جرحٍ ، أو ضر ، أو أذى ..
ويدخل في الأمانة ، الأمانة العلمية ، وهي صحة النقل ، ونسبته إلى صاحبه ، من دون تحريف أو تزوير ، أو انتحال ، أو حذف ، أو زيادة أو تدليس ..
ومن الأمانة صيانة حقوق الابتكار ، والاختراع وعدم التقليد وعدم تقليد العلامات التجارية .
ومن الأمانة صيانة الحقوق الأدبية للإنتاج الأدبي والعلمي ، وعدم النقل ، والاقتباس ، وكذلك الطبع دون إذن صاحب المؤلف ..
يقول صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه ، قَلَّت رعيته أم كثرت أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الزوج عن زوجته ، والوالد عن ولده والسيد عن خادمه ، هل أقام فيهم أمر الله ؟)) .
[رواه النسائي وابن حبان عن أنس ، ورواه ابن عساكر عن أبي هريرة]
بقيت بشارة لأولئك الذين حفظوا الأمانة ، أمانة الواجب ، ولم يضيعوها ، قال صلى الله عليه وسلم : ((الأمانة غنى)) .
[رواه القضاعي عن أنس ]
فالأمانة في نص الحديث من أسباب التوفيق في الأعمال ، فالأمين العفيف المتقن الناصح الذي يؤدي واجبه كاملاً يكسب ثقة الناس ، وهذه الثقة أكبر رأسمال يملكه الإنسان ويتحرك به .. فالأمانة تغنيه عن السؤال ، وتغنيه عن الابتذال ، والأمانة تحقق التوازن النفسي ، حيث تغني عن استجداء المديح ، وهي تكسب المرء ثقة بطهر نفسه ، وهذه الثقة تجعله عزيزاً رافع الرأس ..
· · أمانة المجالس :
ومن معاني الأمانة ، أن تحفظ حقوق المجالس ، التي تشارك فيها فلا تدع لسانك يفشي أسرارها ، ويسرد أخبارها ، فكم من حبال تقطعت ، ومصالح تعطلت لاستهانة الناس بأمانة المجالس ، وذكرهم ما يدور فيها من كلام منسوبٍ إلى قائله ، أو غير منسوب قال صلى الله عليه وسلم : ((إذا حدث الرجل رجلاً حديثاً ، ثم التفت فهو أمانة)) .
[رواه أبو داود ]
وحرمات المجالس تصان مادام الذي يجري فيها مضبوطاً بحدود الأدب ، وشرائع الدين، وإلا فليست لها حرمة .. قال صلى الله عليه وسلم : ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس : مجلسُ سفكِ دمٍ حرام ، أو فرجٍ حرام ، أو اقتطاع مال بغير حق)) .
[رواه أبو داود ]
· · أمانة العلاقات الزوجية :
وللعلاقات الزوجية في نظر الإسلام قداسة ، فما يضمه البيت من شؤون بين الرجل وامرأته ، يجب أن يطوى في أستار مسبلة ، فلا يطَّلع عليه أحد ، مهما قرب .. قال صلى الله عليه وسلم : ((إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ، ثم ينشر سرها)) .
[رواه مسلم]
الخطبة الثانية :
تطبيقاً لمفهوم الأمانة العلمية ، وتوضيحاً لما تقتضيه أمانة هذا الموضوع ، فإن التقصير في أداء الواجـب في كل الأعمال والحرف والوظائف ، يدخل الشبهة على المال الذي يكسبه المقصر ، لقد ضل من قصر الدين على أداء العبادات من صوم ، وصلاة ، وحج ، وزكاة ، ونسي أن ترك درهم من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ، ونسي أن الرجل لأن يمشي في حاجة أخيه خير له من صيام شهر واعتكافه ، فمن أجل أن يصح دين الرجل ، ينبغي أن يحرر دخله من الشبهات ومن التقصير في أداء الواجبات ، وهذه هي حقيقة الورع ، وركعتان من ورِع خير من ألف ركعة من مخلط ، والمخلط ، هو الذي جمع عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وقد صنف الإمام الغزالي الورَع في أربع درجات :
- أدناها ورع العدول ، وهو الذي يوجب الفسق باقتحامه ، ويسقط العدالة بنواله ، ويثبت العصيان والتعرض للنيران ، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء .
- والدرجة الثانية ورَع الصالحين وهو الامتناع عن كل ما فيه شبهة التحريم ، ولكن المفتي يفتي بحله ، بناء على ظاهر أمره ، وقد بني هذا على قول النبي عليه الصلاة والسلام :((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .
- والدرجة الثالثة فهي ورَع المتقين ، وهي الامتناع عما لا تحرمه الفتوى ، ولا شبهة في حله ، ولكن يخشى أن يؤدي إلى محرم ، وهذا مأخوذ من قول النبي عليه الصلاة والسلام : ((لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به بأس)) .
- وأما الدرجة الرابعة ، وهو أعلى الدرجات ، إنها ورع الصديقين وهي الامتناع عما لا بأس به أصلاً ، ولا يُخشى أن يؤدي إلى ما به بأس ، ولكنه يُتناول لغير الله ، وعلى غير نيّة التقوي على عبادة الله قال عليه الصلاة والسلام : ((من لقي الله ورِعاً أعطاه الله ثواب الإسلام كله)) .
الشريعة الإسلامية عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل .
قد يقول قائل ، إذا كان من الكسب الحلال أداء واجبات الأعمال فإن هذا يستهلك الوقت والجهد وراحة البال ، ونحن ننقل لهذا القائل قول النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى :((من أمسى وانياً - أي متعباً - في طلب الحلال ، بات مغفوراً له وأصبح الله راضياً عنه)) .
فكما أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، كذلك طلب الحلال فريضة على كل مسلم ، ومن أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى ، علم أم لم يعلم .
روي أن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله مستجاب الدعوة ، ونحن على وشك الدعاء ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) .
اللهم أنت أحق من عُبِد ، وأحق من ذُكر ، وأنصر من نصَر ، وأرأف من مَلَك ، وأجود من سُئَل ، وأوسع من أعطى ، أنت الملك لا شريك لك ، والفرد لا ند لك ، كل شيء هالك إلا وجهك ، القلوب لك مُفضية والسر عندك علانية ، والحلال ما أحللت ، والحرام ما حرمت ، والدين ما شرعت ، والأمر ما قضيت ، الخلق خلقك ، والعبيد عبيدك ، وأنت الله الرؤوف الرحيم .
اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلينا ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا ، واقطع عنا حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ولا تؤاخذنا بفعل المسيئين يا رب العالمين .
اللهم أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام والمسلمين .
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير ، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر .