وسائل إصلاح البيوت ، لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق و البشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى ، آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارض عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، موضوع دقيق يحتاج إلى عدة خطب ، هذا الموضوع هو أن هذه الأمة مؤلفة في الدرجة الأولى من بيوت ، فإذا صلحت البيوت صلحت الأمة ، وقد يكون البيت المسلم أخطر موضوع يعالج ، لأنه إذا فسد البيت فسد المجتمع ، وتخلَّف ، وإذا صلح البيت صلح المجتمع وتفوَّق .
بادئ ذي بدء أيها الإخوة الكرام ، الله عز وجل جعل البيت نعمة من نعمه الكبيرة ، قال تعالى :
[ سورة النحل : 80]
البيت نعمة ، أي بيت صغيرًا كان أو كبيرًا ، مِلكًا أو إيجارًا ، معك مفتاح بيت تأوي إليه ، ترتاح فيه ، تؤدي فرائضك فيه ، قال تعالى :
[ سورة النحل : 80]
يقول ابن كثير : " يذكر الله تعالى عباده بتمام نعمته عليهم بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن ، يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها من سائر الوجوه " .
أيها الإخوة الكرام ، شيء آخر ، يقول الله عز وجل :
[ سورة الأحزاب : 33]
فالبيت ستر للمرأة ، وصون لها ، وحفظ لها ، ومن عقابات الله عز وجل قوله تعالى :
[ سورة الحشر : 2]
وقال تعالى :
[ سورة الحشر : 2]
إذاً البيت نعمة ، بل هو نعمة كبيرة ، إذا صلح البيت صلح المجتمع ، وإذا فسد البيت فسد المجتمع ، أي نظام في الأرض يدعم البيت ، ويدعم الأسرة ، ويحفظها ، ويصونها نظام رائع ، يقترب من وحي السماء ، وأي نظام في الأرض يفرق أطراف البيت ، ويشتت جمع البيت ، ويفسد البيت هو نظام يقترب من نظام الشيطان .
أيها الإخوة الكرام ، البيت أساس المجتمع .
أولاً : الله عز وجل يقول :
[ سورة التحريم : 6]
أنت ملزم بنص هذه الآية ، وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، أنت ملزم أن تقي نفسك وأهلك نار جهنم باجتناب المعاصي ، والمعاصي لا تجتنب إلا بالتنوير والتعليم ، فيجب أن يكون البيت منوراً بهدي الله عز وجل ، مطبقاً لشريعة الله عز وجل ، مصوناً بحفظ الله عز وجل .
ثمة حديث أيها الإخوة الكرام يضع كل رب أسرة أمام مسؤوليته ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ )) .
[ متفق عليه ]
حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ، هذا الذي يتزوج ، ويأتي بزوجة ، وينجب منها أولاداً ، ولا يبالي بهذا البيت ، بأخلاق البيت ، بانضباط البيت ، بما فيه من منكرات ، بما فيه من معاصٍ ، وآثام هذا ليس أباً جديراً بالاحترام .
أيها الإخوة الكرام ، البيت مكان لحفظ النفس ، والسلامة من الشرور ، وكفها عن الناس ، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (( طوبى لمن ملك لسانه ، ووسعه بيته ، وبكى على خطيئته )) .
[الطبراني في المعجم الأوسط والكبير عن ثوبان]
وورد في بعض الآثار أن المؤمن جنته داره ، لو أن المؤمن سعى جاهداً ليجعل من بيته جنة ، بمعنى أقام في البيت علاقات الود ، أقام في البيت علاقات الرحمة ، أقام في البيت العبادات ، أقام في البيت الصلوات ، أقام في البيت الذكر ، هذا السلوك أيها الإخوة الكرام يجعل البيت جنة ، أنا حينما أقول : البيت ، فلا أتحدث عن مساحته أبداً ، ولا عن موقعه ، ولا عن نوع فرشه ، ولا عن تزييناته ، أتحدث عن بيت يأوي الإنسان إليه .
أيها الإخوة الكرام : (( طوبى لمن ملك لسانه ، ووسعه بيته ، وبكى على خطيئته )) .
[الطبراني في المعجم الأوسط والكبير عن ثوبان]
وفي بعض الأحاديث : (( عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : (( عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسٍ ، مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ ، مَنْ عَادَ مَرِيضًا ، أَوْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ ، أَوْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ دَخَلَ عَلَى إِمَامٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْزِيرَهُ وَتَوْقِيرَهُ ، أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ وَيَسْلَمُ )) .
[أحمد في المسند]
أحياناً في زمن الفتنة أن تقبع في بيتك هذا حسم للشر ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( سلامة الرجل من الفتنة أن يلزم بيته )) .
[الديلمي في الفردوس عن أبي موسى]
أيها الإخوة الكرام ، محور الموضوع وسائل إصلاح البيوت ، أول وسيلة ، وقد تستغربون من هذه الوسيلة ، وقد لا يكون في الظاهر من علاقة بينها وبين البيت .
النصيحة الأولى لحفظ البيت ولصلاحه ولتماسكه ولتفوقه : حسن اختيار الزوجة :
امرأة شكت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ تَقُولُ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَكَلَ شَبَابِي ، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي ، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي ، وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ : ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ )) .
[أحمد في المسند]
هذه المرأة التي شكت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، بينت أن الزوج يكسب الرزق ، وأن المرأة تربي الأولاد .
إذاً حينما تكون على رأس البيت امرأة صالحة تعرف الله عز وجل ، وتعرف خطورة دورها في الحياة ، وتعرف أن أعلى شهادة تحملها أولادها ، وتعلم أنها إذا أعطت المجتمع عناصر نظيفة منضبطة معطاءة كان لها عند الله أجر كبير ، كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت : مَن هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها ، وترك لها أولاداً ، فأبت الزواج من أجلهن )) .
هذه التي ربت أولادها تربية إيمانية أخلاقيةً دينية عاليةً تنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الجنة .
أيها الإخوة الكرام ، قال تعالى :
[ سورة النور : 32]
إذاً الوسيلة الأولى لصلاح البيت حسن اختيار الزوجة ، وأول عمل ينجح فيه الإنسان أن يحسن اختيار زوجته ، فالزوجة الصالحة هي حسنة الدنيا ، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى :
[ سورة البقرة : 201]
قال : " المرأة الصالحة حسنة الدنيا ، التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنك حفظتك ، وإذا أمرتها أطاعتك " ، ستيرة عفيفة تصون زوجها وتربي أولادها .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ )) .
[ متفق عليه ]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ )) .
[ مسلم ، النسائي ، أحمد ، ابن ماجه ]
وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ : لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا ، وَلِسَانًا ذَاكِرًا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً ، تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ )) .
[ ابن ماجه ، الترمذي ]
وفي رواية : (( وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس )) .
[الجامع الصغير ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة]
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا ، وَيَقُولُ : (( تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ ، إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
[ أحمد ]
إذاً البطولة ألا تؤخذ بجمال من دون دين ، ألا تؤخذ بحسب من دون دين ، ألا تؤخذ بمال من دون دين ، البطولة أن ترجح دين الزوجة على كل المرغبات الأخرى ، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل المرأة الصالحة أحد أسباب سعادة الدنيا ، وجعل المرأة السوء أحد أسباب شقاء الدنيا ، فإما أن تسعد بها ، وإما أن تشقى بها ، فبذلك أيها الإخوة الكرام في قضايا الحياة قضايا جانبية عرضية ، لا تؤثر على جوهر حياتك ، ولكن في الحياة أشياء مصيرية تتعلق بسعادتك أو شقائك ، الآن الخاطب ، أنت ولي أمر الفتاة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )) .
[الترمذي ، ابن ماجه]
أيها الإخوة الكرام ، الرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتاً صالحاً ، لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا .
النصيحة الثانية : لو أن إنساناً لم يكن يعنى بأمر الدين ، وتزوج بصفات ليست كما جاءت عند سيد المرسلين ، زوجته سيئة ، ماذا يفعل ؟ إن لم يكن اختيارك حسناً فعليك أن تصلح زوجتك ، هذا يحتاج إلى نفس طويل ، يحتاج إلى موعظة ، يحتاج إلى إحسان ، يحتاج إلى أن تعلمها ، أن تهذبها ، أن تجلس معها وقتاً طويلاً ، أن تلقي عليها الأحكام والمواعظ ، أن تلقي عليها الحكم ، أن تسمعها دروس العلم ، أن تأخذ بيدها إلى الله ، فلذلك قال تعالى :
[ سورة الأنبياء : 90]
وقد قال بعض المفسرين : " كانت عاقراً فولدت " ، وقال بعض المفسرين : " كان في لسانها طول ، فأصلحها الله عز وجل " .
إذاً هذا الذي ييأس من صلاح زوجته لا يعرف طبيعة النفس الإنسانية ، النفس الإنسانية مؤهلة كي تنصلح ، وكي تعود إلى جادة الصواب .
أيها الإخوة الكرام ، اعتنِ بعبادة الزوجة ، اعتنِ بصلاتها ، اعتنِ بتلاوتها للقرآن ، اعتنِ بأذكارها ، اعتنِ بقيامها ، اعتنِ بتلاوة كتاب الله عز وجل ، حثها على الصدقة ، احملها أن تدفع مالاً من مالها الخاص تقرباً إلى الله عز وجل ، ادفع لها الكتب الإسلامية المفيدة كي تقرأها ، اجعل البيت منتدى فكرياً لا مكان طعام وشراب ونوم ، أسمعها الأشرطة المفيدة العلمية والإيمانية ، اختر لها صاحبات مؤمنات يرقين بها إلى سلم الإيمان ، ادرأ الشر عنها ، سد منافذ الفساد عليها بإبعادها عن قرينات السوء ، وأماكن السوء ، إذاً إما أن تحسن اختيار الزوجة ، وإما أن تصلح الزوجة السيئة ، هذه أول نصيحة في صلاح الدنيا .
النصيحة الثالثة : الشيء آخر أيها الإخوة الكرام : اجعل البيت مكاناً لذكر الله ، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ )) .
[مسلم]
بيت كالميت ، ليس فيه ذكر الله ، وبيت فيه الحياة ، لأن فيه ذكر الله عز وجل .
أيها الإخوة الكرام ، الذكر في القلب ، والذكر باللسان ، والذكر بإقامة الصلوات ، والذكر بتلاوة القرآن ، والذكر بمذاكرة العلم الشرعي ، والذكر بقراءة الكتب المفيدة .
أيها الإخوة الكرام ، لا تنسوا هذا المثل ، بين بيت فيه ذكر الله ، وبيت لا يذكر الله فيه كالحي والميت ، فكيف إذا كان في البيت مزامير الشيطان ، والأغنيات الماجنة ، والمشاهدات التي لا ترضي الله عز وجل ؟ كيف إذا كان فيه الاختلاط المحرم ، والغيبة ، والنميمة ، وفساد ذات البين ؟
نصيحة رابعة : في صلاح البيوت اجعلوا بيوتكم قبلة ، والمقصود أن يتخذ البيت مكاناً للعبادة ، قال تعالى :
[ سورة يونس : 87]
قال ابن عباس : " أمروا أن يتخذوها مساجد :" .
وقال بعض المفسرين : " لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة " ، كما قال تعالى :
[ سورة البقرة : 153]
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى )) .
[أبو داود]
إذاً اجعلوا بيوتكم قبلة ، أي : أدوا الصلوات النافلة فيها ، والسنة أن تصلي الفرائض في المسجد ، والسنن والنوافل في البيت ، لئلا يكون البيت قبراً ، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يحرصون على الصلاة في البيوت في غير الفريضة ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَنْصَارِ (( أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي ـ أي : ضعف بصري ـ وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ ، فَأُصَلِّيَ بِهِمْ ، وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ عِتْبَانُ : فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَذِنْتُ لَهُ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ ، قَالَ : فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ ، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ... )) .
[ متفق عليه ]
كان الصحابة الكرام يحبون أن يؤدوا الصلوات ، ولا سيما السنن والنافلة في بيوتهم ، لئلا تكون بيوتهم قبوراً .
النصيحة الخامسة في صلاح البيوت : التربية الإيمانية لأهل البيت ، لقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي من الليل ، فإذا أوتر قال : قومي ، فأوترِي يا عائشة ، وكان أصحاب البيت يدعو بعضهم بعضاً إلى أداء العبادات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى ، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ ...)) .
[ النسائي ، أبو داود ، ابن ماجه]
وترغيب النساء بالصدقة مما يزيد في إيمانهن ، ولقد حث النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : (( يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ )) .
[ مسلم ، أبو داود ، أحمد ]
أيها الإخوة الكرام :
النصيحة السادسة : الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت ، مثلاً ، أذكار دخول البيت ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ : لَا مَبِيتَ لَكُمْ ، وَلَا عَشَاءَ ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ : أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ : أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ )) .
[ مسلم ، أبو داود ،ابن ماجه ، أحمد ]
يدخل الإنسان إلى البيت لا يسلم يجلس إلى الطعام ، لا يسمي ، لا يبدأ باسم الله ، يقول الشيطان لإخوانه : أدركتم المبيت والعشاء معاً في هذا البيت ، ترى الخصومات والصياح والقسوة والعنف ، هذا كله من فعل الشيطان .
أذكار الخروج من البيت : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، قَالَ : يُقَالُ حِينَئِذٍ : هُدِيتَ ، وَكُفِيتَ ، وَوُقِيتَ ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ : كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ ، وَكُفِيَ ، وَوُقِيَ )) .
[أبو داود ،الترمذي]
إذا خرجت من بيتك قل : (( إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ )) ، وكان عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ )) .
[ مسلم ، النسائي ، أبو داود ،ابن ماجه ، أحمد ]
نصيحة سابعة : مواصلة قراءة سورة البقرة في البيت لطرد الشيطان منه ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ )) .
[مسلم]
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ )) .
[الترمذي]
أيها الإخوة الكرام :
النصيحة الثامنة : تعليم أهل البيت ، لا بد من أن يقوم رب الأسرة بذلك ، تنفيذاً لأمره تعالى :
[ سورة التحريم : 6]
هذه الآية أصل في تعليم أهل البيت ، وتربيتهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، ومن بعض ما قاله المفسرون حول هذه الآية : قال قتادة :: يأمرهم بطاعة الله ، وينهاهم عن معصيته ، وأن يقوم عليهم بأمر الله ، يأمرهم به ، ويساعدهم عليه " .
وقال الضحاك : " حق على المسلم أن يعلم أهل بيته من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم ، وما نهاهم عنه " .
وقال الإمام علي رضي الله عنه : " علموهم وأدِّبوهم " .
فلا بد من تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب ، وكان عليه الصلاة والسلام يحث على تعليم الإماء ، وهن أرقاء ، فما بالك بالأولاد وهن أحرار .
بعض الرجال ممن يتولون أمر بيوتهم يغفلون عن تعليم أهليهم ما ينبغي أن يعلموهم ، فحينما تغفل عن تعليم أهل البيت تتفجر مشكلات لا تستطيع حلها ، لأنها ناتجة عن الجهل ، لو تلافيت الأمر ، وعلمتهم قبل أن يجهلوا ، وعلمتهم قبل أن ينحرفوا لكان التعليم استثماراً للوقت ، وليس هدراً للوقت ، هذا الذي يقول : ليس عندي وقت ، هذا جواب غير مقبول ، لأنك حينما تعلم يرتاح بالك ، وتقر عينك ، وربنا كما قال الله عز وجل :
[ سورة الفرقان : 74]
ما معنى قرة العين ؟ أن ترى الذي تحبه على طاعة الله ، أن ترى الذي تحبه ، وقد أودع الله في الإنسان محبة أولاده ، فإن رآهم على طاعة الله قرت عينه .
أيها الإخوة الكرام :
النصيحة التاسعة : اجعل في البيت نواة لمكتبة إسلامية ، هذا بيت لا بد أن تكون فيه ثقافة إسلامية ، لابد من كتاب تفسير ، لا بد من كتاب حديث ، لا بد من كتاب سيرة ، لا بد من كتاب فقه ، لا بد من كتب متنوعة تختارها بعناية بالغة ، تسأل أهل العلم عن أفضل كتاب في التفسير ، عن أفضل كتاب في الحديث ، عن أفضل كتاب في الفقه في السيرة ، تجعل هذه المكتبة نواة لمطالعة أولادك ، ولزوجتك ، ولإخوانك ، فهذا كله مما يعمق الثقافة الإيمانية في البيت ، وبالتالي ربما حمل أفراد الأسرة على أن يتبعوا فيما هذه الكتب من توجيهات .
شيء آخر أيها الإخوة الكرام ، يمكن أن تعتني أيضاً بمكتبة سمعية في البيت ، أشرطة لعلماء تثق بعلمهم ، وبحكمتهم ، وبحسن توجيههم ، أما أن يكون البيت كما قلت قبلاً مكان للطعام والشراب والنوم فهذا فندق لخصومات ومشاحنات ، ونكد وكلام قاس ، وبغضاء ، هذا كله لا يرضي الله عز وجل .
أيها الإخوة الكرام : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * * الحمد لله رب العالمين ، و أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الإخوة الكرام : حينما يقول سيد الأنام : (( إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ )) .
[الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد]
يعني لك حركة في الحياة واسعة جداً ، قد تصبح أكبر تاجر ، أو أكبر صناعي ، أو أكبر اقتصادي ، أو أكبر مدرس في الجامعة ، وقد تبلغ قمم النجاح في مناحي الحياة كلها ، ولكن حينما تعلم أن أفضل كسبك على الإطلاق أن يكون أولادك في أعلى مستوى إيماني وخلقي وتربوي ، هذا مما يجعل الإنسان في سعادة لا توصف ، وهذا معنى قرة العين التي ذكرها الله في القرآن الكريم :
[ سورة الفرقان : 74]
إذاً أيها الإخوة الكرام : حينما تبذل وقتاً ثميناً في تربية أهل البيت ، وفي إصلاح شأنهم ، وفي تقريبهم من الله ، وفي إبعادهم عن مواطن الفساد فأنت أب ناجح ، وأنت أب تستحق الإكبار والتكريم ، أما حينما يدع الإنسان أهله متفلتين شاردين عن طاعة الله عز وجل ، فهذا إنسان لا يستحق أي احترام ، لأنه كان مسؤولاً ، وقد ورد في بعض الآثار أن الفتاة التي انحرفت بسبب إهمال تربيتها تقول لرب العزة يوم القيامة : يا رب ، لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي ، لأنه كان سبباً في فسادي ، فالأب حينما يهمل بيته ، وحينما يسمح للملهيات والمفسدات أن تدخل البيت ، وحينما يسمح للجيران غير الصالحين أن يختلطوا مع أهل بيته ، وحينما يسمح لأطراف البيت بالذهاب حيثما شاؤوا دون ضبط ، ودون مراقبة ، ودون تحقيق ، فهذا أب شرد هو عن الله عز وجل ، وشردت معه أسرته ، فاستحق سوء العقاب في الدنيا والآخرة .
هذا الفساد الذي ترونه في الطرقات ، هؤلاء الفتيات الكاسيات العاريات ، أليس لهن آباء ؟ أليس لهن إخوة ؟ أين هم ؟ كيف سمح الآباء لبناتهم بهذه المظاهر الفاضحة ؟ هناك مسؤولية كبيرة تترتب على الآباء ، هذا كلام موجه للآباء أولاً ، وموجه لمن يعقد العزم على الزواج .
أول شيء في نجاح الأسرة : اختر امرأة صالحة ، هذه المرأة الصالحة قوام البيت الصالح ، والبيت الصالح قوام المجتمع الصالح .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين يا رب العالمين ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .
والحمد لله رب العالمين